منهجية اللّه الثالوث هي منهجية تاريخ الخلاص (أفسس 3) "كيف كشف لي سرّ تدبيره بوحي…هذا السر الذي ما كشفه الله لأحد من البشر في العصور الماضية وكشفه الآن في الروح لرسله وأنبيائه القديسين"  فيها تتتابع المراحل بحكمة وباستمرارية وهو موضوع تربية الإيمان ومنهجيتها.

وهي تقوم على أنّ اللّه يسعى لخلاص الإنسان ومسيرته في التاريخ تبين كيف أن الخلاص هو ثمرة منهجية تربية الله الاساسية والفعّالة.,العهد القديم يبين لنا كيف أن الله هو أب رحوم, معلّم وحكيم يُهيئ مجيء ابنه على الأرض. أرسل ابنه الوحيد فتجسّد أي أصبح إنسانًا وصُلب ومات وأقامه الله وأرسل روحه القدوس كي يُصبح الإنسان إلهًا. هذه هي خلاصة طريقة تعامل اللّه مع الإنسان."ومن معه الابن له الحياة" (يو 3/16 و يو 5/12) و منهجية تربوية الله تبدأ بالكشف الإلهي ثم  بالتجسّد لتنتهي بالدعوة إلى تأليه الإنسان.

والأناجيل تتبع بدورها هذه المراحل الأربع المهّمة: "ولما جاء ملء الزمن" كان يوحنا المعمدان "أكبر الأنبياء وأصغرهم في ملكوت السماوات" يبشّر بيسوع المسيح… فمنذ البداية إلى بشارة يوحنا المعمدان, كانت مرحلة الإعلان عن  اقتراب قدوم الملكوت, ثم جاء يسوع ليعلن بدوره  هذا الملكوت. فبآلامه  وقيامته حقّق يسوع السرّ الذي أعلن عنه وقد استبق هذا السرّ بالآيات التي أتى بها. ويسوع هو الحدث بالذات هو الملكوت. ومرحلة التحوّل متعلقة بحلول الروح القدس على التلاميذ. وهكذا نكون قد انتقلنا مرحلة الانتظار والتحضير إلى تجسّد الكلمة وإعلان الملكوت، إلي الموت والقيامة، فحلول الروح القدس وحياة الكنيسة.

  1. منهجية تربية اللّه الثالوث هي منهجية المحبة والمبادرة والاستكشاف

. ويقول لنا القديس بولس في رسالته إلى العبرانيين :" أن الله إنما يعاملكم كالبنين ". هكذا عامل الله شعبه في العهد القديم ورافقه في مسيرته  كلها. هو " يأخذ الشخص في الوضع الذي يوجد فيه ، يخلصُه من سلاسل الشر ، ويجذبه إليه برباطات الحب ويجعله يكبر شيئاً  فشيئاً يعاقب يوءدب ويصبر إلى أن يبلغ نضج ولد حرّ وأمين وخاضع لكلمته.

 

  1. منهجية الابن هي منهجية التجسد واللقاء بالآخر والعطاء اللامتناهي والتعليم  .

     أول لقاء مباشر بين الله والإنسان، تمّ في ملء الزمن بتجسد ابنه يسوع المسيح الذي اصبح إنساناً وأعطى ذاته لخلاص البشر في مرحلة تتمِّم "تربية اللّه". وكل حياته وأقواله وأعماله كانت إعلانا للبشارة. هذه هي منهجية اللقاء. فالله تجسّد كي يلتقي بالإنسان حيث هو ليرفعه إلى ملء الإنسانية، إلى الألوهة.

     فلمّا دعا يسوع تلاميذه ليتبعوه، سلّمهم سرّ ملكوت الله وشرح لهم كلّ شئ (مرقس 4/11 ) لقد أعطى  ذاته لتلاميذه في الكنيسة:"هذا هو جسدي يُبذلُ لأجلكم" .هذا هو العطاء الشامل، وقد تمرسّ عليه التلاميذ مباشرةً من خلال العيش مع يسوع  و"ملاقاة الآخر ، ولا سيما الفقير والصغير والخاطئ، كشخص يحبه الله ويفتش عنه. والتبشير الصادق بملكوت الله هو بشارة جميلة بحقيقة الآب وتعزيته، ونمط من الحب الناعم والقوي في آنٍ الذي ينجّي من الشر ويعضد الحياة، ودعوة ملحّة لسلوك مدعوم بإيمان بالله ، وبرجاء الملكوت ، وبالمحبّة للقريب ، واستعمال كل كنوز  التواصل بين الأشخاص ، كالكلمة والصمت ، والاستعارة والصورة والمثل . والعديد من العلامات المتنوعة" (140).

 

لقد اعتنى يسوع بتنشئة تلاميذه حين أرسلهم للبشارة . فكان المعلّم الوحيد والصديق الصبور والأمين . لقد علّم من خلال عيشه مع التلاميذ. فكان يطرح عليهم الأسئلة ويشرح لهم معمّقاً ما كان يقوله للجميع . لقد مرّنهم على الصلاة ، وأرسلهم للخدمة الرسولية  ووعدهم بالروح القدس، روح الآب الذي يكشف لهم الحقيقة  كلّها  ويسندهم في الأوقات الحرجة  . (140 عدد ) صُلب مات وقام.

 

  1.  أخيراً منهجية الروح القدس هي منهجية التحوّل والتأليه :

إن عيشُ الإيمان لا بد من أن يصبح قوة، رجاء، ومحبة، والمهّم أن تثمرُ هذه المحبة . والإيمان بالله يؤلّه الإنسان من خلال محاربته اليومية للشدائد والتجارب .

الروح القدس يحوّل المؤمن ، ويجعله يتجلّى كمبشر. الروح القدس يُلهم المربي ويساعده في عمله. والمنهجية الإلهية هي العبور إلى الحياة الجديدة، هي الانتقال من حالة إلى حالة افضل. " فالابن اصبح إنساناً كي يصبح الإنسان ألهاً ". هذا ما يجعلُ منهجية التعليم مسيحانية  وثالوثية ويجعلها أيضا منهجية التدريب، التواصل، الحوار ونضوج الإيمان والاتحاد بالله. وبكلمة نقول : هذا هو سرّ تأليه الإنسان المخلوق من الله على صورته وسرّ المحبة الإلهية التي يعيشها بنو البشر .

إذن المهّم في هذه المرحلة هو الاستيعاب  الشخصي الذي  إكتشفناهُ  في مرحلة اللقاء. وهذا الاتحاد يتطلب "توبة" أي(تحوّل).  فكما أنه في الإفخارستيا يتحوّل الخبز والخمر  إلى جسد ودم الربّ، هكذا في مرحلة الاستيعاب يتحوّل القلب ويتغيّر، وهذا القلب ليس من حجر كما هو قلب "الإنسان  القديم" بل هو قلب جديد مملوء من الروح القدس.

والتوبة هي إحدى  طرق الاتحاد، يُعبّر عنها بحياة الإيمان الذي إذا بقي دفيناً في القلب، ينقلب إيماناً خطيراً ويبقى دون معنى، منعزلاً دون حياة عملّية يتجلّى فيها. أماّ دور المربى في هذه المرحلة فهو أن يساعد المؤمن على التعبير عن إيمانه. 

 

كيف أحيا إيماني ؟

 

في هذه المرحلة يستجيبُ المؤمن لنداء الرب الذي يدعوه كي يعيش إيمانه. فمعرفة  المسيح هنا لم تعد معرفة مجردة بل أصبحت عملية حياتية لا تنفصل عن حياة الإنسان في كل نبضة من نبضات قلبه. وهكذا تصبح حياة صلاة. وهدف كل تربية دينية هو أن تحوّل الإنسان بخبراته وحياته اليومية إلى إنسان يعيش صلاة فرديّة أو جماعيّة لتسبيح الله وشكره واستغفاره.

هدف التحوّل هو أن يصبح الإنسان بدوره إلهاً وهذا هو قصد الله في كل مسيرة الخلاص. ألم يتجسد الله بقوة الروح القدس كي يصبح الإنسان ، بقوة الروح ذاته ، إلهاّ ؟ أنَّ كل ما يسعى إليه الإنسان هو أنّ يُبدِّل حياته فيعيش من المسيح وفيه ويصبح هو قوتهُ اليومي . إنّ التحول المنشود هو أنّ يُشرك الإنسان حياته  بحياة الآب لا بل أنّ يملأ حياته بالآب.(2 بط 1 : كولوسي (12:1 – 13 ، 1 يوحنا 2.3)

"أنّ يصبح الإنسان إلهاً " أن يعيش كابن لله، هذا هو تراث الكنيسة الشرقيّة. فبعد أن خَطئ الإنسان عاد الله وتجسّد في التاريخ كي يؤلهُ الإنسان ويَعيد إليه الصورة التي سقطت قديماً ويعطيه  الملكوت .

الأخت وردة مكسور

راهبات القلبين الأقدسين

التباريس
 
 
"."الله محبة" هذا ما يقوله لنا القدّيس يوحنا ، وإيماننا يؤكد لنا " أن الله خلقنا بمحبة" .  إن الله احبنا لدرجة أنّه أرسل ابنه الوحيد ليخلصنا  أنّ الله يبحث عن الإنسان ويكلمه بواسطة الأحداث اليومية. وكلامهُ دعوةٌ دفينة في قلب الإنسان لا  تقوى على الخروج وحدها . والإنسان هو في عطش دائم لإخراج هذه العناصر وهذه الخبرة الحياتية من عالم اللاوعي، فيتمُّ الاستكشاف والبحث بدافع  المحبة. لذلك يحدث المعلّم فراغاً في قلب التلميذ حين يسأله "ويُحركه" كما يفعل الفلاح. "عمّن تبحثين" سأل الرب مريم المجدلية بعد

 قيامته… فالمؤمن هو الأرض التي هي  بحاجة كي تُقلب وتُفلح وتُزال منها الحجارة كي تتحرّك

وكذلك يُبادر الربّ يسوع ويتقرّب من تلميذي عمّاوس، يسيرُ معهما يحادثهما ويسألهما "عمّا تتكلمان وما هي الأمور التي تتجادلان فيها ؟"  ويجعلهُما يتكلّمان ويُصغي إليهما

 

منهجية اللقاء مع كلمة الله الحي ومع الخبرة الإنسانية تؤكّد أنّ الأرض قد زُرعت  بإلقاء الكلمة، وأنّ الحبوب أصبحت في قلوب المؤمنين. ولكن أيُّ أرض هذه ؟ حينئذ "أخذ يشرح لهم كل ما يختصّ به من موسى وجميع  الأنبياء"  إلى موته وقيامته ( لو 24)  " هذا هو الحوار المنهجي "هل فهمتم ذلك ؟"  (متى 13/15 )

فهذه المرحلة  تتّم بإعلان كلمة الله  وهي مرحلة الكرازة والتعليم الصريح عن ملكوت الله. وهي تأتي عن يد الكنيسة التي هي سرُّ المسيح وجسده الفاعل على الأرض. وبصفتها أمّ ومعلّمة تفي الكنيسة هذا التعليم حقّه وتكمّل منهجية الآب والابن وتحيا بالروح الذي يقودها في عملها التربوي ويقوّيها ويشارك أيضاً في القيام بهذه المرحلة معلمون تنشأوا جيدا للقيام بهذه المهمة.

فبالتأمل الشخصي لكلمة الله وبالخبرة  الحياتية، يتّم التعليم الذي يسمح باستنارة القلب. فالروح القدس الذي يحيي المربي يُظهر وجه يسوع ويجعل القلب متّقداً" : " أما كان قلبنا متقدا حين كان يشرح لنا الكتب؟" والروح  يصغي وينمي خبرة الإيمان ويسهّل اللقاء البنوي مع الله .ودورُ المعلّم أن يحوِّل بتعاليمه نصَّ الكتاب المقدس إلى كلمة حيّة ومحيية، ونحن نعلم أن الكلام يفترض حضورا لا بديل عنه ولا كلام دونه. فالحضور يكوِّن الكلمة يجعلها تنطق ويُعبر عنها، وبهذا المعنى يقومُ التعليم على المحبة واللقاء بالمسيح  الكلمة المتجسد .

 

  1. منهجية الاستيعاب والاتحاد

     إنها منهجية تنبعُ من الداخل لا بل هي مُجابهةٌ للكلمة وتملكها . فالكلمة تعمل  بواسطة  الرّوح القدس في كلّ مسيحّي .والروح القدس يستخدم الأشخاص الذين يتسلَّمون رسالة إعلان الإنجيل . فقدراتهم ومهاراتهم وخبراتهم الإنسانية لا تنفصل عن منهجية الإيمان .

  و نشاطات الاستيعاب تساعدُ في نضوج الزرع أي في "حفظ الكلمة " التي تقلبُ الأعماق وتغير القلوب، في وقت نموّها وتَفتُّحها.   فبمساعدة الروح القدس وإلهاماته يتمُّ تحديث وتأوين الحدث أي يسوع المسيح في الجماعة . إذا الروح هو الذي يُلهمُ ، يعطي ثمراً ويبدِّلُ القلوب . الرّوح القدس يُحي الكنيسة ويقودها في مسيرتها الحياتية . (141 )

من شخصٍ بسيط مجهول  أصبحت العذراء مريم  بعمل الروح القدس أماً لله . بالمعمودية ، حلَّ الروح القدس على يسوع وبعدها بدأ حياة ًجديدة أعني حياته العلنية . بحلول الروح القدس أيضاً تحوّل الرسل من أشخاص  خائفين ومختبئين إلى شهود شجعان للمسيح أمام رؤساء المجلس وأمام العالم بأجمعه . "لا نستطيع  أن نصمت " هذا ما قالوه لمن حاولوا أن يسكتوهم. نعم  لقد اصبحوا حملة البشرى والكلمة، ولم يستطع شيء أن يوقفهم . بحلول الروح القدس  أيضاً وفي كل ذبيحة إلهية، يتحّول الخبز إلى جسد المسيح والخمر إلى دمه .