- التعليم في المدرسة
أولى الظواهر التي تطالعنا، أنّ التربية الدينية التي حدّدناها أعلاه قد انحسرت عن مفهومها الأصيل واقتصرت على التلقين والتعليم فتركّزت في المدرسة بعد أن تخلّفت الأسرة والرعية عن مهمّاتهما.
ومع أنّ المدرسة قد خلقت الجو الملائم ويسّرت انتشار التعليم الديني، فإنّها أورثته المشاكل التي تعانيها في مواجهات تغيرات العصر. ومشاكل التربية الأكاديمية في مدارسنا عديدة، سنكتفي بعرض سريع لبعضها.
- المدارس تغصّ بالأعداد، لا يستطيع المعلّم أن يتعرّف على أسماء تلاميذه حتى نهاية السنة. وهو يعطيهم معلومات يملأ بها رأسهم دون أن يحرّك فهمهم وذكاءهم، هو يشرح النظريات المختلفة ثم يدرسها التلاميذ ويُسمعونها دون إفساح المجال أمامهم للقاء بعضهم ببعض. فما حال التربية الإيمانية في هذا الوضع ؟ لا حوارً داخليًا ولا حوارً عائليًا بنّاء ما لم يكن ذا مردود مادي فوري.

- سيطرة الإنتاج المادي
فالتربية المعاصرة مهدّدة بالانجراف في تيارات تخدم المجتمع الاستهلاكي. فكلّ ما يُنتِج ويُعطي مدخولاً ماديًا له قيمته، وكلّ ما هو مجّانيّ لا يحدث أي رغبة في الطلاب.
فالدرس أصبح، لا للثقافة كما تبغيه المدرسة، بل لأخذ علامة مرتفعة. التلميذ لا يسعى لتوسيع آفاقه وثقافته بل يبحث عن وظيفة تدرّ مدخولاً. فالقيمة في الإنتاج وحده.

- البرامج التربوية
البرامج التربوية مُنظّمة بطريقة لا تسمح للتلاميذ بأي تربية إنسانية، لا تتيح لهم المجال كي يشعروا بجمال الطبيعة حتى ولو كانت المدرسة في قلب الطبيعة. فهم منصبّون على الدرس والكدّ للحصول على العلامات الجيدة.
الجمال يزول أمّا العلامة فهي سبيل للعلاقة وللقيمة الاجتماعية. وعدم وجود العلامة هو عدم وجود القيمة.
وهذا ما واجهني به تلميذ من الصف البكالوريا إذ قال لي "أنّ التربية في المدرسة غلط" قلت لماذا ؟ فقال :"إنّ المعلّم لا يهتمّ إلاّ بالعلامات، والذي يأخذ  20/20 هو الولد الناجح الذي يسترعي الانتباه، فلا يُنظر إلاّ الدارسين ونتائجهم… أمّا الذين يتعبون دون تحقيق نتائج باهرة، فهم أقلّ قيمة… لا أحد ينظُر إليَّ ليرى أيَّ إنسان أصبحت أنا اليوم أو كيف تبدلت"..

- التحوّلات السلبية
إنّ هذا الوضع الجديد في العالم سبق حساباتنا وبدّل مقاصدنا وأعمالنا فانفجرت التربية المعاصرة في تيارات تخدم المجتمع اللاستهلاكي كما وصفها الأستاذ انطوان مسرّة في مقالة نُشرت في جريدة "النهار" اللبنانية في 24/10/89.
"وهكذا يتحوّل التعليم الشخصي إلى إنماء الفردية، والحوار التربوي إلى استهتار بالسلطة، ومشاركة الأهل إلى اكتساب عملية تأييد الزبائن والنيل من معنويات المعلّم. والعمل الجماعي إلى انتهازية الفرص على الغير، وفهم بيئة الطالب إلى إلقاء المسؤولية على الغير، وحرية المعتقد إلى ترك التلاميذ يتدبرون أمر معلوماتهم الدينية، وسيكولوجية الدوافع والتشويق إلى تبسيط التعليم إلى درجة السطحية والتفاهة".
وهكذا فإنّ توسّل الكنيسة بالمدرسة لإيصال الرسالة والتربية قد انعكس سلبًا لانحراف الوسيلة عن أهدافها الأساسية.

- تأثير الوسائل الحديثة وأدوارها في التربية
من الصحيح أنّ التربية هي للعائلة وللمدرسة والرعيّة، ولكننا غالبًا ما ننسى أنّ التربية أصبحت بين أيد غريبة لا نعرفها ولا نعرف نواياها، وهي بواسائلها أقوى منّا ولديها كلّ الأساليب المشوّقة والمغيّرة إذ تسيطر على الإنسان ومخيلته وتتبعه حتى إلى فراشه، فلا داعي إلى الجهد أو إلى الدرس والجلوس أمام الطاولة للكتابة. البرامج التلفزيونية تأخذ من وقت التلميذ خمس ساعات أو سبعًا يوميًا، إذ يفضّل العمل أمام التلفزيون ويدرس وعينيه شاخصتين إلى الفيلم أو غيره.
لقد امتلكته الدعايات المسلية والمؤثرة وهي بتقنيتها وقصرها أقوى من كلّ التعاليم التي نقوم بها في رسالتنا بغضّ النظر عن البرامج وقيمتها ومستواها..
ليست المدرسة وحدها هي المسؤولة عن التربية ولا العائلة، بل البرامج التلفزيونية أيضًا وكلّها نابعة من مشاكل اليوم ومستجدّات الساعة. أملنا الوحيد أن يعي كلّ دوره ومسؤوليته وأن يقوم به بكلّ إتقان وأن يتعاون مع الآخرين كي تصل الرسالة المسيحية الإنسانية إلى كلّ إنسان. "مجانًا أخذتم فمجّانًا أعطوا".

الخاتمة:
والإيمان هو هبة الروح القدس المجانيّة، لكلّ إنسان أن يقبل حدث المسيح الخلاصي ويلبّي نداءه.
وتتعاون الكنيسة وكلّ معلمي التعليم المسيحي مع عمل الروح القدس في قلب المعمّد لتأليه الإنسان المؤمن شيئًا فشيئًا ولنمو الإنسان الجديد فيه، على الرغم من مظاهر الانحلال التي تهاجمه من الداخل والخارج. وتسعى الكنيسة المحلية أيضًا إلى عيش شركة الثالوث الأقدس التي بدونها لا وجود للمؤمن، وإلى أن تكون حقًا جسد المسيح الواحد.

الاخت وردة مكسور