إنَّها العاشِرَةُ صَباحاً، تَوَجّهَتْ سُهَى إلى مَكانِ عَمَلِها في مِنْطقَةِ «الحَمْرا». كالعادَةِ، عَجْقَةُ السَّيْرِ خانِقَةٌ، لاسيَّما أنَّ المَطرَ يَنْهَمِرُ بغَزارَةٍ. فَجأةً، وَسْطَ سَيْلِ السيّارات، يَظْهرُ صَبيٌّ صَغيرٌ يَحْمِل عُلْبةً كَرْتونيّة، يَصِلُ إلى سيَّارَةِ سُهى وَيَقْرَعُ عَلَى زُجاجِها غيرَ آبِهٍ بانْسِيابِ المِياهِ مِنْ شَعْرهِ وَثِيابهِ كالشَّلال. ما إنْ فَتَحَتْ سُهى الزُّجاجَ قَليْلاً حَتّى بادَرَها بِلَهْجةِ الترَّجي :

- «بدِّكْ عِلْكِة؟ اللَّه يْخَلِّيكِي اشْتِِري عِلْكِة؟».

-«مَعْقول، هَلَّق وَقتِ العِلْكِة؟ رَحْ تِمْرَضْ؟ لَيْش مَنَّكْ بالمَدْرَسِة؟ وَين أهْلَكْ؟ وَينْ عَيْلتَك؟ كيفْ تارْكينَكْ عَ الطّريق؟» صَرَخَتْ سُهى بِغَضَب.

ولَكِنَّ الصَّبِيّ لَمْ يُجِبْ عَلَى أيِّ سُؤالٍ وَبَدا فَراغٌ رَهيبٌ في عَيْنَيه وَكأنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ كَلِمَةً واحِدَةً ممّا قالَتْهُ سُهى. وَمَعَ ذَلِكَ، ظَلَّتْ سُهى تُصرُّ: «وَين عَيْلتَكْ؟».

فَفَضّلَ الصَّبيُّ الإنْسحابَ واخْتَفى في الأفُُق.


مشْهدٌ عِشْناهُ، رَأيْناهُ أو سَمِعْنا عَنْهُ. مَشهدٌ يُثيرُ الغَضَبَ وفي الوَقْتِ نَفْسهِ يَدْعُو إلى التَّفكير : لمَ يَهْرُبُ هَؤلاءُ الأوْلادِ عِنْدَ سُؤالِهم عَنْ عائِلاتِهم ؟

أليسَ لأنَّهُم بِلا عائِلَة وبالتّالي مَفْهومُها وَمَعناها غَائِبان عَنْ أذْهَانِهم؟

وَنَحْنُ، مَنْ لَدَيْنا عَائِلَة، أفَكَّرْنَا في أهَمِّيَةِ احْتِضانِها لنَا؟ أتَساءَلْنَا في غِيَابِها مَا كانَ لِيَحُلَّ بِنا؟ وبالتّالي هل نَتَنعَّمُ بِهذه النّعمِة و نَعِيْشُ الهنَاءَ الّذي تَمْنَحُهُ لَنَا؟

أنُساهِمُ قَدْرَ اسْتِطاعَتِنا في تَرْكيزِ دَعائِمها وتَمْتيْنِها لِتَصمُدَ في وَجْهِ كُلِّ الرّياح؟ كيف؟ تابِعونا.


Attachment