محاضرة أُلقيت في عمان في الحلقة الاستشارية لمجلس كنائس الشرق الأوسط، ونُشرت في كتاب "المسؤولية المسيحية في الحياة الاقتصادية والتنمية"  الصادر عن وحدة الحياة والخدمة، لبنان 1995.

أجابت فيها الأخت وردة عن السؤال: هل الكنائس واكبت تطوّر العصر وخطت خطوة باتجاه التنمية، أو أنها ما زالت تتلهى بالحسنات المتفرقة التي لا ترضي مظلومًا ولا تشبع البطون الجائعة؟

 

البعد التاريخي لمسؤولية الكنائس في حقول الخدمة

والتنمية والانتقال من الحسنة إلى التنمية

 

1- مفهوم الحسنة في العهد القديم والعهد الجديد والكنائس

- في العهد القديم

- في العهد الجديد

- في الكنائس

 

2- تطوّر نظرة الكنيسة إلى القضايا الاجتماعية

- كيف وردت في أقوال الأباء

- الحسنة في الرسائل البابوية

- المطالبة بالعدالة الاجتماعية

- إحاطة بمشاكل التنمية والمساعدات بين الدول

- الكنيسة تتحسّس مشكلة العالم الثالث

- نقض الحسنة والمطالبة بالتنمية الشاملة

- التنمية الإنسانية مع بعض الشهود

 

3- الخدمة تتجه نحو بوادر التنمية الصرفة

- مؤسسة كاريتاس كنموذج عمل

 

4- نظرة نقدية وخاتمة

 

 

 

البعد التاريخي لمسؤولية الكنائس في حقول الخدمة والتنمية

 

      ما هي المعطيات التاريخيّة للخدمة الكنيسة وخصوصًا ما هي قضيّة الإنتقال من الحسنة إلى التنمية العادلة والحافظة لحقوق الإنسان وحريته وكرامته.

      كان كلّ شيء مشترك بينهم (...) فلم يكن فيهم محتاج (أعمال الرسل 4/23)

 

      لا شكّ أن الخوض في موضوع كهذا ليس بالأمر البسيط لسببين: أولها أنّ المادة مهمّة ومتشعبة، وثانيها أنّ الطرح يتميّز بالجدة. أضف إلى ذلك أنّ هذا الموضوع يثير تساؤلاً مصيريًا من الصعب جدًا الحزم فيه سلبًا أم إيجابًا ألا وهو: هل الكنائس واكبت تطوّر العصر وخطت خطوة باتجاه التنمية، أو أنها ما زالت تتلهى بالحسنات المتفرقة التي لا ترضي مظلومًا ولا تشبع البطون الجائعة.

 

      سؤال يصعب عليَّ أن أعطي جوابًا دقيقًا ومتخصصًا عليه كوني لا أملك كلّ المعطيات والمستندات اللازمة ولا المؤهلات العلمية المتخصصة بالإضافة إلى أنه الوقت المخصّص لهذا البحث هو قصيرٌ جدًا.

      قد يكون ممكنًا لي أن أتتبّع خطوات الكنيسة الكاثوليكية أكثر من غيرها في هذا المجال ومواكب تقدمها من الحسنة العفوية والفوضوية، إذا صحّ التعبير، إلى الحسنة الموجّهة وإلى العمل الإنساني. فمن التحديد الحسنة إلى تطورها إلى محاولة تمحورها حول التنمية قد نتلمّس جوابًا لهذا السؤال الدقيق والأساسي.

 

 

  1. ما هو مفهوم الحسنة في العهد القديم والعهد الجديد والكنائس ؟

      الحسنة هي العمل الجيّد الجميل كما يقول المنجد وهي أيضًا عمل الرحمة إمّا رحمة الله (مزمور 24/5 أو أشعيا 59/16) وإمّا رحمة الإنسان لأخيه الإنسان (تكوين 47/29) وهذه الرحمة لا تكون صادقة إلا إذا تُرجمت إلى أعمال، وتحتلّ المساعدة المادية بينها مكانًا بارزًا.

 

(١) محاضرة أُلقيت في عمّان في الحلقة الإستشارية لمجلس كنائس الشرق الأوسط ونُشرت في المسؤولية المسيحية في الحياة الاقتصادية والتنمية الصادر عن وحدة الحياة والخدمة، لبنان 1995.

 

- الحسنة في العهد القديم

      "إنّ فكرة الحسنة قديمة عندنا قدم الدين في الكتاب، وهو منذ البداية يطالب بمحبة الأخوة والفقراء..." كواجب ترك جزء من المحاصيل ، ولقط السنابل وتعفير الكرمة (لاويين 19/9-23).

      "إنّ الفقير موجودٌ  ويجب أن نستجيب لسؤاله بكرمٍ ولطفٍ . وهذا الكرم يعتبر جزءًا من مجرى الأعياد" (تثنية 16/11) طوبى لمن يراعي المسكين والبائس" مزمور 41/-2-4).

 

      هناك فقراء  كثيرون يذكرهم الكتاب وهم بالأخص ضحايا القدر أو جشع البشر مثال هؤلاء العمال الذين يصف أيوب تعاستهم المفجعة (24/3-12). وقد وجد هؤلاء المظلون في الأنبياء مدافعين أكفّاء عنهم. فعلى أثر عاموس الذي "يزأر" منددًا بجرائم اسرائيل (عاموس 2-6-8) نرى المتحدين باسم يهوه يشجبون العنف والجور واختلاسات مزرية في التجارة (عاموس 8-5-6) احتقار  الأراضي وتسخير المحتاجين (إرميا 34/8)…

      وكان الحكماء لا يكفون عن التذكير بحقوق الفقير المقدّسة (أمثال 14/21 و17/5 و19/17) وهي حقوق يدافع عنها الربّ بقوّة (أمثال 22/22-23 و23/10-11) ومن المعروف أنّ الكتاب المقدّس يعتبر الإنسان أي المساعدة عنصرًا أساسيًا من عناصر التقوى الحقيقة (طوبيا 4/7-11 وسيراخ 3/30 إلى 4/6).

 

الحسنة في العهد الجديد (١)

      لقد أيّد يسوع التقليد اليهودي حيث يقول بأنّ الصدقة مصدر جزاء سماوي وأنها تحمل كنزًا في السماء (لوقا 12/21) ولأن من خلال إخوتنا التعساء نصل إلى يسوع شخصيًا. "كلّ ما صنعتم شيئًا من ذلك لواحد من هؤلاء الصغار..." (متى 25).

      فعلى الأغنياء واجبات حتمية إزاء الفقراء وعندما نساعدهم نساعد يسوع نفسه من خلالهم. "(متى 23/3 ويعقوب 5/4) كيف نحتفل بسرّ وحدة المناولة الأفخارستيا دون مقاسمة أموالنا أخويًا". (كورتنس 11/20-22). ويمكن أن يكون للحسنة معنى أوسع "أن تكون بينكم مساواة". ذلك ما يريد بولس أن يقوله عندما يختار أسمًا مقدسًا للمّه، ولجمع التبرعات الذي يقوم به لصالح الكنيسة الأم بأورشليم: إنها خدمة (2 قورنتس 8/4). في الواقع يريد بولس تغطية للهوّة التي أخذت تفصل بين الكنيسة التي من أصل وثني والكنيسة التي من أصل يهودي. لقد عني بولس باظهار هذه الوحدة عن طريق جمع تبرعات عامّة (أعمال 11/29) فهو يلقي "خطاب محبّة" على مسامع أهل قورنتس (2 كو 8/9)"فينبغي السعي لإقامة مساواة بين الأخوة اقتداء بجود المسيح وحتى يتمجّد الله.

 

 

الحسنة في مفهوم الكنائس (٢)

      إنّ مفهوم الحسنة اختلف حسب الكنائس. فالكنائس البروتستنتينية تعتبر منذ البدء أنّ الحسنة هي العدالة نفسها، والبروتستنتي ينخرط بكل أنواع الألتزامات حتى السياسية منها. وقد صرّح القسيس روبي بوا "إنّ الحسنة هي من صميم الدعوة المسيحية" ولكنّ مساعدة المجروح لا تكفي والذي يعتني بالمرضى ينحصر بناحية واحدة من الواقع والوقاية أمرٌ مهمّ.

 

      وقد تطوّرت فكرة الحسنة عندهم. فمنذ قرن تقريبًا توعّوا بأن بشارة الإنجيل لا تقبل إلا إذا كانت الأقوال مقرونة بالأفعال. واعترفوا بضرورة التضامن مع المحتاجين والإعتراف باستقلالهم وخصوصيتهم. لذلك انخرطوا في تيارات المكافحة الإجتماعية بعد أن اكتشفوا بأنهم كانوا يدافعون عن أنظمة غير محقة وغير عادلة في بنيتها.  وقد توصلوا إلى القول بأنّ الحسنة هي الكفاح السياسي من أجل العدالة.

 

أمّا الأرثوذكسي:

      يرفض الأرثوذكسي أن يسيّس العمل الخيري لأن مفهوم العالم عنده حقيقةٌ روحية. لأن الملكوت هنا لن يكتمل بعد، وكلّ ظلم أو توتر أصله وحله هنا. وعندهم وعيٌ حاد عن الحياة الأخرى.

وهو حذرٌ من كلّ ما هو تجمعات ومشاكل اجتماعية ويهتمّ بالإنسان ككائن حّي. حتى الحروب الطبقية لا يعتبروها ككلّ، بل يهتمّ بشكل كلي بالإنسان والكائن.

يتمسّك بتنوّع الأشخاص واحترامهم، لذلك يدافع عن الإنسان والحسنة هي عنده مساعدة للبؤساء.

 

أمّا الكاثوليك:

      إنّ الحسنة رغم انخراط البعض منهم في السياسة تبقى لها حقوقها. يدعون إلى العمل السياسي دون التخلي عن الحسنة ومساعدة المحتاجين، لأن العدالة هي دائمًا متأخرة بالنسبة إلى الحاجة.

فلو وهب الإنسان المال قد يسدُّ عوزه، ولكن التعساء ليسوا الفقراء، فالمال لا يسدُّ عوزهم. مثلاً، هل المال يحلُّ مكان العزلة عند الأرملة ؟ فالسبب يكمن بالوحدة أو بعدم الإيمان أو بالخوف،....

فالعدالة الاجتماعية لا تكفي وحدها، بل هنا المحبّة والحسنة هي الفعّالة.

      فالمال الذي هو وسيلة العدالة لا يحلُّ مكان وسيلة المحبة وهي إعطاء الوقت. فالحسنة هي أقلُّ شيء من واجبات الأغنياء وإعطاء الوقت له قيمته. "أن أعطي حياتي في سبيل من أحبّ". كلّ إنسان من واجبه أن يحارب من أجل العدالة. وأمّا المسيحي فعنده واجبٌ آخر هو واجب المحبّة. كلّ إنسان يستطيع أن يحبّ ويحسن، أمّاالمسيحي فهذا واجبٌ عليه.

 

 

      والمهمّ أنه مهما اختلفت الاعتقادات والالتزامات فتبقى غنية لأنها تعبّر عن إلتزام الكنيسة الكامل بالإنسان وعن الحرية المعطاة لكلّ إنسان، وتتجاوب مع دعوته وتجد الوحدة في نظام العدالة والسلام التي أخذها المسيحيون من المسيح. فلا يتغافلون عن التعرّف إلى المسيح في كلّ المحتاجين "فكلُّ ما فعلتموه لأحد هؤلاء الصغار، فلي فعلتموه".

 

      ومنذ فجر المسيحية والكنيسة تدأب في خدمة الإنسان، في مساعدة المريض، عملاً منها بقول المسيح:" جعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني، كنت مريضً فساعدتموني، غريبًا فأويتموني وعريانًا فكسوتموني وسجينًا فجأتم إليَّ". فالكنيسة واعية لدورها إذ واكبت الوعي للمسألة الاجتماعية برسائلها وأقوالها وبمؤسساتها، لحلّ معضلة النمو الملحة. والحبّ المفضّل للفقراء هو شكل خاص من ممارسة المحبة المسيحية، يشهد له كل تقليد الكنيسة (ص. 87). لأنها ليست مجرّد  "إدارة بل هي شعب الله".

      ومنذ ان انطلق الإنسان في ثورة صناعية وتقنية تناولت أوضاع حياته في شتى أبعادها، الفردية والعائلية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والدولية وفي وسط التيارات الفكرية والانقلابات الجذرية ومنها الثوري العنيف الدامي، والديكتاتوري الكلي، والتطوري، والمحافظ.... حرصت الكنيسة دومًا على التركيز على الإنسان في قيمته الشخصية، ودعوته الإلهية، ومصيره الذي يتجاوز أبعاد الأرض.

      والإنسان يحتلّ قلب المشكلة الاجتماعية والاقتصادية وما فتئت القضية الاجتماعية تشغل بال الكنيسة. ولنا الشاهد على ذلك في كتابات السلطة التعليمية العديدة، سواء أصدرت عن الأحبار الأعظمين أم عن المجمع الفاتيكاني الثاني... الكتابات الصادرة عن مختلف الأسقفيات، نشاطات مختلف مراكز الفكر والمبادرات الرسولية العملية. سواءٌ كان على المستوى العالمي أم على مستوى الكنائس المحلية.

من الصعب أن نسرد هنا بالتفصيل كلّ إلتزامات الكنيسة والمسيحيين بالنمو والقضية الاجتماعية لأنها كثيرة جدًا.

 

أمّا الفلسفة التي اعتمدتها الكنيسة، فتلك التي حملها الإنجيل إلى العالم بشرى خلاص وتحرّر، ومحبة وعدالة ومساواة وأخوّة تلف البشر جميعًا أبناء الله.

      من هنا أخذت الكنسية معطيات لرسالتها الإنسانية وللقضايا الاجتماعية المطروحة عليها وأخذت تدافع عن حقوق الإنسان وكرامته وذلك بطرق متعدّدة ومتنوّعة كما سنعرضها والباباوات كانوا في طليعة من أسهم قولاً وكتابة وتوجهًا وتقويمًا. ولم يكتفوا بالصعيد الفكري فاتخذوا مواقف عملية في شتى الأمات مركزين على ما يعونه من مسؤولية راعوية بحكم منصبهم والنفوذ المعنوي العالمي لمركزهم وشخصيتهم الروحية والإنسانية والعمل برسالة الكنيسة في خدمة الإنسان ومساعدته حتى يبلغ ملىء قامة المسيح ويتذوّق علامات الملكوت.

 

 

      ولا يزال العرب يتحدث، في عميق تقدير وعرفان جميل عن مواقف البابا حيال معضلة فلسطين، وقضية الإنسان العربي في فلسطين. وقد تجرّأ البابا بيوس الحادي عشر أن يشهّر بالفلسفة العنصرية النازية وسياسة لظلم الهتلري(١). وحرصت الكنيسة على أن تنتهز فرصة كلّ ذكرى فتعرض التطورات الحديثة في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وتقدّم ما ترى من حلول  إنطلاقًا من الأوضاع والمعطيات الجديدة. وقد وردت تعاليمهم (الباباوات) في هذا المضمار كثيرة وعديدة نذكرها كالتالي:

 

2- تطوّر نظرة الكنيسة إلى القضايا الاجتماعية

      - كيف وردت المساعدة في أقوال الآباء والكنيسة من سنة 90 إلى 1890 ؟

      رأى آباء الكنيسة بأنّ خيرات الأرض هي للجميع وكانوا قاسين جدًا مع المستغلين والمستفيدين    وحدهم.

      وفي الجيل الرابع والخامس: بدأ الاحترام للملكية الخاصة.

      في القرون الوسطى بدأ الاقتصاد يقترن بالعمل الاجتماعي والعمل اليدوي وبفكرة أنّ     الاقتصاد هو في خدمة الإنسان.

 

 

الحسنة في الرسائل الرسولية وتطوّرها التدريجي

      المرحلة الأولى: المطالبة بالعدالة الاجتماعية.

      في  15ايار  1891 صدرت رسالة البابا لاوون الثالث عشر "الشؤون الجديدة" وطالت كلّ القضايا المتعلقة بالاقتصاد وحياة العمال وأجورهم "أجور مجاعة" وشروط عمل مرهقة... وطال الإنسانية في الأوضاع التي تفرض على النساء والأولاد في عملهم وأتت رسالته مشبعة من مبادىء الإنجيل وروحه...

      وتطرّق إلى الملكية الخاصة وعلى واجب الدولة في تحقيق المصلحة العامة على الصعيد الزمني وأنه لا يمكنها أن تتجاهل عالم الاقتصاد وأنّ عليها الاسهام الإيجابي والنشيط لتحسين أوضاع العمّال المعاشة وأن تسهر على أن تصان كرامة الشخصية الإنسانية نفسًا وجسدًا، في أوساط العمّال وعرضت طريقة للتعاون مع الدولة.

وفي هذا المجال رسمت رسالة لاوون الثالث عشر الخطوط التي استوحتها التشريعات الاجتماعية في دول العالم، وهي نقاط أسهمت فعلاً في قيام تطوّر فرع جديد في القانون، هو قانون العمل.

      وفي أول حزيران  1941 الذكرى الخمسين لرسالة لاوون الثالث أصدر بيوس الثاني عشر رسالة وقد سلّطت فيها الأضواء على حقّ كلّ إنسان في أن يعيش على مستوى كرامته الإنسانية، وهو حق أولي بالنسبة إلى أي حقّ امتدادي آخر، حتى إلى حقّ الملكية نفسه، وعلى العمل بوصفه حقًا وواجبًا لأي إنسان، وعلى الأسرة من حيث ما تقتضيه حريتها الصحيحة والاضطلاع بواجباتها من حقوق، بما في ذلك حق الهجرة.

 

 

المرحلة الثانية: إحاطة بمشاكل التنمية والمساعدات بين الدول

      وفي 15 آيار 1961 ذكرى السبعين سنة يصدر البابا يوحنا الثالث والعشرون رسالة "أو معلمة" يستعيد فيها أهمّ القضايا السابقة من أجرة العمل من حيث العدل والإنصاف والتوازن بين التطوّر الاقتصادي والتطوّر الاجتماعي وفي مقتضيات العدل وكرامة الإنسان في الأنظمة... وفي الملكية الفردية.

ويلمّ بموضوع تخلف القطاع الزراعي والعمل على تنمية هذا القطاع من جميع نواحيه، ويسهب في شرح مقتضيات العدل والمحبة في العلاقات بين البلدان المتفاوتة التنمية. ويتطرّق لنقطة زيادة السكان والتنمية الاقتصادية ويختم بضرورة توثيق روابط حياة مشتركة في الحقّ والعدل والمحبة. وينهي كلامه بقوله: "ولذلك فالرسالة كانت ولا تزال تدعى بحق الشرعة الكبرى للإعمار الاقتصادي والاجتماعي في عالم اليوم".

ويعود في رسالته الصادرة ١١ نيسان سنة 1963 بموضوع السلام، إلى بعض هذه النواحي في ضوء ارتباط السلام بها.

وفي سنة 1965 المجمع الفاتيكاني الثاني عالج باسهاب ووضوح مسائل الاقتصاد والعمل الاجتماعي وكانت الوثيقة التي أصدرها بمثابة توعية عامة لأبناء الكنيسة بوجوب الاتجاه نحو الإيمان وتنميته.

وعلى أثر هذا المجمع أصبحت اللجنة الحبرية: "عدالة وسلام" مركز الارتباط بهذا المجال مع فروع تابعة لها في المؤتمرات الأسقفية. وهذاالموضوع بقي محور ثابت تدور بقية الأمور باتجاهه ويشكل توعية تدريجية للمشاكل الاجتماعية المطروحة ولدور الكنائس به.

 

المرحلة الثالثة: الكنيسة تتحسّس مشكلة العالم الثالث

      وفي سنة 1967: رسالة "ترقّي الشعوب". لقد انطلقت هذه الرسالة من الواقع الأليم ومن القضية الاجتماعية التي أصبحت عالمية. "لقد أثبت ذلك بلا موارية يوحنا الثالث والعشرون ورجع المجمع صداه بدستوره الرعوي "الكنيسة في العالم المعاصر". إنّ ذلك التعليم لخطير وتحقيقه لملحّ. "إنّ الشعوب الجائعة اليوم تستصرخ الشعوب المترفة استصراخًا مرًّا. والكنيسة ترتعد أمام هذا الصراخ الوجيع فتدعو كلّ واحد إلى أن يجيب بدافع الحب نداء أخيه الإنسان (1).

ورأى أن اليوم لم تعد تكفي المبادرات المحلية والفردية "فالوضع القائم للعالم يطلب عملاً مشتركًا ينطلق من نظرة جلية إلى النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والروحية كافّة" (2)|.

وبالوقت نفسه استند إلى وثيقة المجمع إذ حدّد أن النمو الاقتصادي وحده لا يكفي "فلكي يكون ترقيًا أصيلاً ينبغي أن يكون كاملاً أي أن يقوّم كل إنسان والإنسان كلّه".

وقد ندّد البابا أيضًا بالتحرريّة المنفلتة" التي ترتكز على الكسب والمنافسة والملكية الخاصة لخيور الانتاج وقال أنها "تقود حتمًا إلى ديكتاتورية" وصفها بحقّ بيوس الحادي عشر مولّدة" لتحكّم المال الدولي" وشجبها بقوة معلنًا أنّ الاقتصاد هو لخدمة الإنسان.

 

 

 

وطالب من الجميع ومن ذوي الإرادة الطيبة مندوبون في المؤسسات الدولية رجال الدولة - الصحافيون - المربّون وإلى كلّ واحد في مكانه "أنكم لبناة عالم جديد" وطلب منهم أن يكونوا رسل الترقّي الصالح الصحيح الذي ليس هو الثراء الأناني المحبوب لذاته بل الخبز الموزّع على الجميع بمثابة مصدر أخوة وعلامة للعناية.

وقد تناول معضلة التخلّف التي تعانيها البشرية في ثلثي ابنائها، وتهدّد السلام، وبالتالي قال أن السلام في عالم اليوم يُبنى بالعمل المتضامن على تنمية اقتصادية واجتماعية تلف البشرية جمعاء.

 

 

المرحلة الرابعة: نقضي الحسنة والمطالبة بالتنمية الشاملة.

      وفي كانون الثاني 1970: طالب أساقفة بلجيكا بالمساهمة الفعّالة بتنمية الإنسان وكلّ الإنسان. فلا يجوز لنا أن نكتفي بالحسنة لأنّ المحبة تبدأ بالعدل وباحترام حقوق الإنسان والبشرية جمعاء. وأعلنوا أنّ نظام بعض البلدان الاقتصادي والسياسي والاجتماعي يترك الشعوب في حالة بؤس... وعلينا أن نحوّل هذه المؤسسات ونكون فعلة خير وأنبياء.

 

      "في شؤون العمّال" وفي 14 ايار  1971 في ذكرى الثمانين لرسالة لاون الثالث عشر يعرض بولس السادس المعضلات الاجتماعية الجديدة "ترقي الشعوب"، ومنها خصوصًا ظاهرة تضخّم المدن ومضاعفاتها على الصعيد الإنساني، وتطوّر وسائل الإعلام ودورها الخطير في عالم الويم...

ويحدّد موقف الضمير المسيحي حيال هذه التطورات ويدعو إلى العمل السريع في محبة شاملة وتضامن مع جميع ذوي الإرادات الحسنة في نطاق الاحترام المتبادل.

 

وفي  14 أيلول 1981 في ذكرى تسعين سنة على صدور الرسالة العامّة في "الشؤون الجديدة" "الاهتمام بالشأن الاجتماعي" فيقول أنّ "ترقّي الشعوب" تبدو نوعًا ما شبه وثيقة تطبيقية لتعاليم المجمع الفاتيكاني الثاني. والكنيسة هي الخبيرة بشؤون الإنسان. ويبدو له من الضروري الكشف عن وجود أجهزة اقتصادية ومالية واجتماعية تعمل غالبًا بطريقة آلية، مع أنها خاضعة لإرادة البشر تجعل أحوال الثروة عند البعض وأحوال الفقر عند البعض الآخر أشدّ تحجرًا وصلابة. (ص. 52).

ويعلن عن التخلّف الموجود من:

نقص في المساكن - البطالة - الرهاب - البطالة - الدين الدولي - المعضلة الديموغرافية.

 

وأبدى الوجه الإيجابي وهو أنّ ثمة كثيرًا من الرجال والنساء يعون وعيًا كاملاً كرامتهم وكرامة كلّ كائن انساني.

 

 

 

وشجّع القيمين على الاهتمام بعلم البيئة والتخطيط الانمائي لأنّ للنمو وجهًا اقتصاديًا حتميًا فهو يوفر لأكبر عدد ممكن من سكان الأرض الخيرات الضرورية لتحقيق "الذات" وعليه أن يكون شاملاً وأكثر إنسانية. "فالإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله وهو مدعو إلى الخلود"، ودعى إلى التعاون في سبيل إنماء كل إنسان وكلّ إنسان هو، في الوقع، واجب الجميع تجاه الجميع.

 

وبيّن أن العوائق التي تقف بوجه النمو الكامل ليست فقط شأنًا اقتصاديًا بل تتصل بمواقف أكثر عمقًا تعكس للكائن البشري قيمًا مطلقة مثل: الرغبة المطلقة في الكسب من جهة، والعطش إلى السلطة من جهة أخرى.

وشدّد على التضامن كطريق للسلام وللنمو في آن واحد والسلام ثمرة العدالة وثمرة التضامن.

 

ايار 1991: السنة المئة: فكر الكنيسة الاجتماعي - سقوط الماركسية وحدود الرأسمالية -الدفاع عن الإنسان وتنميته.

لذلك يعلن البابا في رسالته (السنة المئة) أنه "لا بدّ من أن تحطّم الحواجز والامتيازات التي تفرض على شعوب كثيرة أن تظلّ في هامش التطوّر، وتؤمّن للجميع أفرادًا وشعوبًا، الشروط الأساسية للإندماج في حركة التطوّر".

وقد نستنتج أنه يدعو إلى نظام عالمي يعطي الأولية، ليس للعمل والانتاج والممتلكات المادية... بل للإنسان. ذلك الإنسان المخلوق على صورة الله، والمفتدى بدم المسيح والمدعو للمشاركة في الحياة الإلهية... ذلك الإنسان الذي هو "درب الكنيسة" وغاية المجتمع ونقطة ارتكازه.

إذًا نظام على العدل والسلام والنمو واحترام حقوق الجميع وبثّ روح المحبة والتعاون بين كلّ المجتمعات والبلدان.

 

في هذا القسم، ومن خلال خطابات الباباوات في أزمنة مختلفة، رافقنا تطوّر نظرة الكنيسة إلى المعالجة الاجتماعية بحيث انتقلت من فكرة الكلمة لمساعدة "العائلات المستورة" إلى فكرة العدالة الاجتماعية، إلى التنمية، إلى المطالبة بانصاف شعوب العالم الثالث. وبالرغم من أهمية هذا التطوّر فإنه يبقى كلاميًا ما لم يترافق مع إنشاء مؤسسات مُنتجة تُعنى بالتنمية الشاملة للإنسان. فهل وصلت الكنيسة إلى هذه المرحلة ؟

 

نود في البدء أن نحدّد التنمية بالمفهوم الذي نتبناه أعني أنها مجموعة التغيرات الذهنية والاجتماعية التي تسمح لجماعة بشرية ما بزيادة انتاجها الاجمالي الحقيقي على نحو ثابت وتراكمي (١). وهي أيضًا بالإضافة إلى البعد الاقتصادي المذكور أعلاه تتناول الأبعاد الأخرى في الإنسانية كالبعد الاجتماعي والثقافي لأنّ التنمية بالنهاية تركّز على الإنسان ليعيش بكرامة.

 

 

 

تعامل الكنيسة مع الترقي والتنمية.

حاولت الكنيسة أن تقوم برسالتها التبشيرية وأن ترفع الشعوب التي نقلت إليها الإيمان بالمسيح.

ولقد بنى مرسلوها بالإضافة إلى الكنائس مأوى ومستشفيات ومدارس وجامعات. وعلّموا الشعوب وسيلة استشمار أفضل لمواردهم الطبيعية وحموهم من جشع الدخلاء.

وعرفوا رغم بعض النقص بعملهم أن يرعوا المؤسسات المحلية وينشطوها. وفي مناطق عدّة، كانوا في طلائع العاملين على التقدّم المادي والنهضة الثقافية على السواء. مثلاً الأب شارل دي فوكولو وقد استحقّ، لأجل محبته أن يدعى "الأخ الكوني" وأعدّ قاموسًا ثمينًا للّغة التوراغية ونذكر أيضًا:

 

التنمية الثقافية والإنسانية وأهمّ الشهود.

- إنّ الكنيسة هي التي أسّست أول جامعة في اسبانيا وباريس وبولونيا. لأنّ العلم والثقافة هما من أول متطلبات الحياة الإنسانية الكريمة.

والمدارس جميعها تفرعت من الكنيسة وكانت مجانية وللفقراء وتهدف إلى تعليم الشعب وتثقيفه إيمانيًا.

وكذلك علم الطبّ والفلسفة والحقوق والطباعة وأكثر المؤسسين هم رهبان وكهنة كرهبنة القديس شارل 1687 ومون لاسال 1680-1682 والمدارس الداخلية وغيرها التي أنشأها اليسوعيون أينما حلّوا حتى في الهند سنة 1541.

فاليسوعيون كما الدومنيكان والفرنسيسكان أينما ذهبوا يهتمون بالنشىء بتثقيفه لإعطائه مستقبل أفضل.

وقامت الإرساليات البروتستنتية والكاثوليكية بالذهاب إلى أكثر من مناطق العالم ومنها افريقيا، وحرّرت العبيد وطالبت بحقوقهم وبنت المدارس والمآوي ومستشفيات البرص واهتمّت بالهامشين.

 

دون بوسكو: 1815-1888:حبّه للفقراء والضعفاء والتعساء جعله ينذر نفسه في خدمتهم فسيم كاهنًا وخصّص حياته للشبيبة المهمشة التي تلعب في الطريق والفقر يمنعها من النمو فأسّس لها المدارس والمؤسسات الابيه بيار مع من هم دون مسكن.

 

والمستشفيات: ظهرت المستشفيات ببادرة من المسيحيين في القرن الرابع. فالقديس باسيليوس بنى مستشفى عام 368 في قيصرية وكان يساهم في إيواء المسافرين والغرباء وقد ألحق به جناحًا للمرضى. وبما أنّ المجامع الكنسية كانت تشدّد على استقبال المرضى في أبرشياتهم ساهم هذا الحدث بانشاء مؤسسات استشفاء ومنهم الجمعية للقديس يوحنا والروح القدس. ففي القرن الحادي عشر والثاني عشر ظهرت مستشفيات البرص في فرنسا.

 

 

وفي القرن الثاني عشر إلى السادس عشر كانت المستشفيات المتخصّصة بإدارة كهنة أو رهبانًا.

وفي القرن السابع عشر الشحاذة أعطت فكرة تأسيس مستشفى عام في باريس (1656-1657).

وتسلّمت الدولة رويدًا رويدًا هذه المستشفيات وحتى إلى عهد قريب بقيت المستشفيات تعتبر مؤسسات خيرية. وقد انتقلت من دور الحسنة إلى دور الاجتماعي، وكذلك المدارس.

 

والأم تريزا أرادت أن تعيد إلى الإنسان كرامته وبدأت بما عندها من معطيات فحثّت العالم إلى قضية المعذبين والمحتاجين وها هي تصل إلى 120 دولة بعملها هذا.

ودون هيلور كمارا (مواليد 1906 أكّد أن الفقراء ليسوا أفرادًا بل أصبحوا بلدانا فلا يكفي أن نطالب السخاء للذين هم جائعين بل الحسنة هي العمل من أجل العدل والسلام. ورفع صوت البؤساء إذ تكلّم عنهم واسمع صوتهم للعالم وليس فقط لجيرانهم وقال أن صوت العبيد والمذلولين والفقراء هو صوت الله نفسه.

 

الأخت امانويلا وعملها في عالم الزبالين ومساهمتها في تحسين وضعهم.

إنّ هذه المؤسسات تحاول أن تساعد الإنسان أن تعيد إليه كرامته واحترامه وذلك عن طريق المساعدة المباشرة وعن طريق تثقيفه.

لابيه بيار وكلّ اهتمامه بالذين لا مسكن لهم.

الأب يعقوب الكبوشي وقد كان يدير بحكمته كلّ ورشات العمار في خدمة الفقراء والمهمشين.

وبين 1968-1974: ساهمت الرهبنة اللبنانية مثلاً في مشروع تجمّع المدارس مساهمة فعّالة، إذ قدّمت لوزارة التربية 16000 متر مربع في قرية دير جنين عكار، 10000  في جران البترون، و 5000 في قرية معاد جبيل، و 10000 مم في قرطبا، و10000 في قرية بصرما الكورة.

 

وقد شهد التاريخ انه في الحرب العالمية الأولى كان للأديار دور مهمّ وكان الناس يستفيدون من علاقاته بالسلطات مثلاً دير حريصا ويأتي بالقمح والطحين من حوران ويوزعه على أهل القرى المجاورة فيعيشون من هذه الحسنة. وبالوقت نفسه ساهم في تنمية المنطقة وتطوّرها إذ أن درعون تعد  أكبر منطقة للطباعة وجميعهم تعلموا في المطبعة البولسية وكذلك أكثر المهن تعلموها من عمار وحدادة ونجارة الخ... من خلال عملهم وبهذا يكون الدير قد ساهم بتنمية المنطقة وتنمية الإنسان.

وكانت الرهبنات أيضًا تملّك أفرادها بالمشاركة بالعمل وتسوق منتوجاتهم إذ خلقت لهم نوعًا من التعاونيات في الأديرة كما علمتهم مهنة ليكونوا إلى جانب الراهب العامل.

 

 

وتحت الإحتلال العثماني ساهمت جميعها في تنمية الإنسان إذ أنّ نشر مبادىء القراءة والكتابة قبل إنشاء المدارس كان اهتمامًا منها في التنمية وكثيرون اكتسبوا خبرات العمار والمهن المتعددة بسبب اهتمام الكنيسة بهم.

- نظّمت مدارس في القرى وفي القطاع الصحي، أسّست مراكز طبية وخدمات اجتماعية. وكذلك مراكز للتدريب الحرفي والمهني ونشاطات انتاجية.

(تدريب الشباب، محو الأميّة، التدريب المهني، التدبير المنزلي للنساء وبعض النشاطات الاقتصادية الانتاجية المحدثة).

والنبتة التي زرعتها الكنيسة وسقتها واعتنت بها أصبحت شجرة معطاء تساهم ثمارها في تنمية هذه المنطقة المهمّة من الشقيقة الكبرى (ص 245).

أين الكنيسة اليوم من معالجة المعاقين والمجروحين بزكائهم ؟ ألا لديها نداءً تطلقه ؟ وما هي قصة المساكن غير الصحية ؟ والمياه المبتذلة ؟

 

      بالحقيقة إنّ هذه المعطيات تبيّن بوضوح أنّ الكنيسة لم تلتزم وحدها المشاريع الإنمائية ولكنّها تأخذ البادرة الأولى في إحياء منطقة أو في إنشاء مدرسة ومتى تطوّرت الأمور وأرادت الدولة أن تتابع العمل سلمتها للدولة لأنها هي المعنية بالإنماء والتخطيط، وانطلقت إلى مشروع إنساني آخر اقتناعًا منها أن دور الكنيسة هو أن تكون ضمير الدول وأن تحمل صوت الفقير والجائع كما فعل دائمًا المسؤلون فيها ونخصّ  بالذكر هيلدر كمارا وهي تعلن دائمًا عن حقّ كل إنسان وتجعله معروفًا وتساعده لكي يناله. وكلّ ذلك إيمانًا منها بأنّ الإنسان له كرامته وهو على صورة الله وله الاحترام إن كان فقيرًا أو غنيًا، سيدًا أو حرًا. لذلك تسعى الكنيسة إلى تنمية الإنسان وتثقيفه وترافق دائمًا ذلك بالحسنات.

وهكذا منذ إنفصالها عن الدولة بقيت الكنيسة تنادي، وتطالب وتوعي وتشرح وتشجّع دون أن تصبح هي نفسها مركزًا للتخطيط الاقتصادي والتنفيذ. فالمبشّرون ساهموا في تنمية الإنسان ثقافيًا واجتماعيًا وأسّسوا المدارس والجامعات ولكن ذلك لم يكن مقصدهم فجلّ ما كانوا يريدون هو نشر الديانة المسيحية. وكان التعليم والتربية وسيلتان ليتمكّن الفرد من تلقّي مفاهيم الإيمان واستيعابها. التنمية إذًا كانت غير مستهدفة وبالتالي أتت غير مكتملة بانتظار مرحلة تصبح نهائية.

 

3- الخدمة تتّجه بشكل نهائي نحو التنمية الصرفة

أنشأت الكنيسة الكاثوليكية مثلاً كاريتاس المؤسسة الاجتماعية الكنسية وهي منذ نشأتها بخدمة الإنسان. وقد تأسّست في المانيا وهي الآن عالمية تهتمّ بالتنمية.

كاريتاس أي "المحبة" تعي جيدًا أنّ العلاج الذي يبقى مفعوله ويدوم هو ما يتناول الجذور. الخدمات التي تبقى وتستمرّ حية هي الخدمات الإنمائية التي تساعد الاهلين ولا سيّما الريفيين منهم على استثمار هذه الخدمات اقتصاديًا فتنعكس على مجتمعهم خيرًا وبركة.

 

وهي تدرك ذلك وتخطّط له وتنفّذه بواسطة لجنة التصاميم والمشاريع فيها. وقد ساعدت مثلاً في لبنان من أجل تمكين الاهلين من تحقيق مشاريع إنمائية، زراعية وحرفية، شقّ طرق زراعية، جرّ مياه الري إلى الأملاك، تعزيز المشاغل الحرفية بمكنات تطريز وخياطة الخ... حفر آبار إيجاد ممولين لها.

 

وفي لبنان أنشئت في الجنوب سنة 1972 وبعد ثلاث سنوات بدأت الحرب وأخذت تلبي حاجات الناس الضرورية وأكثرها كانت الطوارىء من فرش وحرامات ورز وسكر ومعلبات أو ثياب. عملت على إسكان العيل تحت القصف والمحافظة عليهم.

وقد تطوّرت مشاريعها بالشكل التالي ولأظهار ذلك نستند إلى الأرقام فهي تبيّن مدى التقدّم وكيف تتوجّه الكنيسة بهذه الأيام وقد اتّخذت نموذجًا عنها من سنة 78 إلى 92/93 زراعة - الصناعة - المهنية.

 

ومنذ عام  1985 بدأت تكثّف مشاريع التنمية. ونأخذ على سبيل المثال الأرقام الواردة في الجدول (رقم 3) ونلاحظ أنّ مشاريع التنمية تكاثفت منذ عام 1985 وظهرت القروض للانتاج الحيواني أو الخدمات الخ وهذا مؤشّر مهمّ بهذا المجال.

وبرامج كاريتاس أصبحت معروفة فهي تتناول الأيتام والأرامل والعجزة والمهجرين والطلاب والمرضى وتحاول أن تعمل ما بوسعها على النهوض بمشاريع تنمية تطويرية تمكّن المعوز أن يساعد نفسه بنفسه وهذه المساعدة طويلة المدى ووجدتها كاريتاس أفضل أنواع المساعدات لأنها عوض أن تعطي للمعوز سمكة ليأكلها تعطيه شبكة ليصطاد وبالوقت نفسه تعلمه الصيد وتبقى بقربه حتى.

 

ففي عام  1978 أبان الحرب اهتمّت بمشاريع إنمائية ومولتها وأهمّها كما ورد في الجدول التالي:

 

 

تطوّر المشاريع الإنمائية بالأرقام والسنين

الجمعية العمومية سنة 1978

ونلاحظ أنّ الأعداد والتدريب المهني يأخذ أهمّ رقم في التنفيذ (مجموع النفقات 631.954 ل.ل.) ويليه المشاريع الصحية في المناطق البعيدة وكذلك تنفيذ الآبار، وأمّا المشاريع المرفوضة أهمّها بناء كنيسة 13/6.

 

ففي عام  1993 رأت كاريتاس أنه من الضروري أن تتحوّل المساعدة إلى مشاريع ولو صغيرة للتنمية وتحويلها إلى تعاون حق وتتضامن. حق بين الإنسان وأخيه الإنسان وبين الكنيسة والمعوزين.

 

 ومن الخبرات المشجعة تحوّل دير الكرملين في بشري بالسنة نفسها معملاً لمشتقات الأثمار والأعشاب، ورواد هذه التجربة الإنمائية ثلاث رهبان رأس مالهم خبرة وتخصّص في إنتاج الكحول من الأشجار المثمرة ومن الأعشاب الجوي منها والبري وتهدف إلى الإكتفاء الذاتي إذ يستوعب كلّ إنتاج موسم التفاح وجنى فوائد الأعشاب والأزهار التي تجمع وتخضع لشروط فنية لاستخراج العصير والمشروبات الروحية من كلّ أنواع الأشجار الموز والمشمش والتفاح والليمون، (١).

وإلى هذه السنة ورغم اتجاهها نحو المشاريع التنموية لا تزال النسبة المئوية ضئيلة جدًا كما يشهد البيان (رقم 2).

 

فهلّ هذه الميزانية تقوم بالأعباء الكثيرة ؟ هل هذه المشاريع قادرة أن تواجه المشكلة الأساسية فتحدّ من هجرة الشباب ؟ هل ستجد الكنيسة "الأخوة السبع الممتلئين من الروح والحكمة فتقيمهم على أعمالها "كما فعل الرسل حين رأوا أن أراملهم يهملن في خدمة توزيع الأرزاق اليومية ؟ وبما أنّ العوائق التي تقف في وجه النمو الكامل ليست فقط شأنًا أقتصاديًا، كما سبق وقلنا فهل تعمل الكنيسة على تربية الإنسان فتحدّ من الرغبة المطلقة في الكسب ومن العطش إلى السلطة والوصول إليها بأي وسيلة كان أقلّه عند المؤمنين ؟

 

أمّا نقاط الضعف في مشروع كاريتاس فهي أنّ مشاريعها ممّولة بالمساهمات وشعارها "ساعدونا لنساعد"، فهي إذًا لم تخرج عن نطاق الكلمة، (ربما تقصد أن يتحسّس كلّ إنسان بأخيه المحتاج وليس فقط الأغنياء منهم). فهي لم تخطُ خطوة إلى الأمام إلا في موضوع انتقاء المشروع، فبدل أن توزّع الخضار والفواكه على الجائعين مثلاً، جمعت المال واشترت للمزارعين جرّارًا وكذلك لقّنت الشباب المهن والحرف المنتجة. ورغم شعارها الجديد لهذه السنة "نحضنهم ليبقوا معنا" تبقى كاريتاس حتى تاريخه بعيدة عن منهجية التنمية التي تهدف إلى إيجاد مشاريع تموّل ذاتها بذاتها وتمكّن الأفراد من إنتاج ما يكفيهم ومساعدة غيرهم.

 

ويبدو أنّ نقاط الضعف هذه قد تمّ تجاوزها مرحليً في مشروع اجتماعي أطلقته إحدى المطرانيات في بيروت، في مشروع لمؤسسات عمل اجتماعي والذي أدّى إلى نشوء مستوصفات وبيوت لرعاية المسنّين وإقامة مخيمات صيفية وإعطاء مساعدات مدرسية لطلاب محتاجين.

 

وما هو جديد في هذا المضمار هو أنّ المشروع نصّ على إقامة مشغل للخياطة ومشتل زراعي ومطعم يحوّل إنتاجها إلى تمويل النشاطات غير المُنتجة في المشروع.

ويظهر من موازنة المشروع أنّ المؤسسات المُنتجة تساهم بأكثر 90 بالمئة من تكاليف المشروع، في حين أنّ الهبات لا تشكّل إلاّ 10 بالمئة  من مجموع الإيرادات في سنة مالية. هذه أظن أنها بادرة أمل كبيرة.

 

وأخيرًا، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ ما يبدو من عدم مواكبة الكنيسة لمسيرة التنمية، وفقًآ لما يراه الإقتصاديون ناتج عن تمسّكها بشكل حرفي ومتزمّت بفكرة الحسنة وفقًآ لما وردت في الكتاب المقدّس دون أي محاولة لتطويرها رغم تطوّرات العصر. ولا شكّ أنّ الاطّلاع على الدراسات الحديثة في هذا المضمار ينقض فكرة الحسنة التي طالما تمسّكت بها الكنيسة بشكل كامل على اعتبار أنّ الحسنة مسيئة سواء للجهة التي تتحسّن أو التي يتلقّى الحسنة. فالحسنة بحسب بعض المفكرين الاقتصاديين المعاصرين هي خطأ نفسي، اجتماعي واقتصادي وسياسي.

1- خطأ نفسي اجتماعي لأنها تؤكّد تبعية الفقير للغني.

      2- خطأ اقتصادي لأنها تقدّم الدعم الفكري للقادة وتعفيهم من التفكير والجهد الخلاّق.

      3- وهي خطأ سياسي إذ أنّ حالة التبعية التي تحدثها في أي دولة تتعزّز لتصبح تبعية دبلوماسية وعسكرية.

 

      فالمساعدة بهذا النحو تبقى مبعثرة وتساهم في الكسل عند الجانبين وتحدّ من إعداد جدي لأي خطة تجهيز قد تكون ضرورية لوضع مشروع وتنفيذه. فمن اتّكل على المساعدة لا يرى حلولاً بعيدة وجزرية. والمساعدة هي ممارسة غير فعّالة وبدون جدوى متى غاب المساعد أو تخلّف توقف العمل.

 

      على مرّ السنين سعت الكنيسة إلى تحسين وضع الفرد اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا، ولكن مختلف نشاطاتها لم تكت موجهة بشكل نهائي وأساسي نحو تنمية الإنسان اقتصاديًآ. وربما تكون قد بالغت في تقدير قيمة الحسنة ولم تقدّر الوجه الثاني المظلم لها والواقع يشهد أنّ الحسنة سلاح ذا حدّين.

 

      فلو سلّمنا أن الدور الأساسي في التنمية يبقى للدولة وليس مطلوبًا من الكنيسة أن تحلّ محل الدولة، فإنّ دور الكنيسة من هذا المنظار وعلى مرّ العصور يبدو إيجابيًا وإيجابيًا جدًآ. فهي لم تقم بالتنمية ولكنها لم تعرقلها، ولم تكن حجر عثرة في طريقها، لا بل ساهمت فيها أحيانًا على الصعيد الاجتماعي والثقافي. وهي دائمًا تستلهم الروح القدس في عملها وتسمع ما يقوله  للكنائس لأنّ "محبة الله، كما يقول القديس بولس، "أفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي وُهِب لنا".

     

      وعلى مرّ الأيام، انتقلت الكنيسة، إذا صحّ التعبير، من الحسنة العفوية إلى الحسنة الموجّهة. ولا تزال الأعمال الاجتماعية التنموية ضمن نطاق الكنيسة في مرحلة أولية لم تكتمل ولم تنضج بشكل نهائي. فهي تعي أنّ أهمّ الحواجز التي تعيق وصول الشعوب إلى نموها الشامل والتمتّع بحقوقها كاملة والانخراط في الحياة الدولية على قدم المساواة مع الشعوب الغنية ليست فقط

 

 

 إقتصادية كما سبق وقلنا بل أهمها إنساني ومتأتي من نظرة الإنسان لأخيه والكنيسة تعي جيدًا وتعمل بما أوتيت من وسائل كي تجعل الإنسان يشعر بأخيه الإنسان وهي تقول:"إنّ خيرات الأرض للجميع".

     

      فالتقدّم كان نظريًا وكلاميًا ولم يترجم فعليًا على الأرض ولم تتحرّر الكنيسة نهائيًا من فكرة اللّمة ومساعدة "العائلات المستورة". والكنيسة حاليًا أمام تحدّ كبير وهي دائمًا على موعد مع الروح القدس لتميز كيفية التزامها بالتنمية في الأوضاع الراهنة، ومع جملة من المشاريع والبرامج التنموية المتطورة التي، إن نفذت، كفيلة بأن تجعل الكنيسة رائدة أساسية في مجال التنمية الشاملة للإنسان ولقدراته، وهي تعمل بإلهام من الروح القدس وهو المؤيّد، روح الحقّ "وهو، كما قال لنا يسوع، يعلّمكم جميع الأشياء ويذكّركم جميع ما قلته لكم" (يو ٤١/٦٢). ها أنا معكم إلى منتهى الدهر.